فصل: ذكر الحرب بين السلطان سنجر وخوارزم شاه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر خروج ملك الروم من بلاده إلى الشام:

قد تقدم أن الفرنج أرسلوا إلى ملك القسطنطينية يستصرخون به ويعرفونه ما فعله زنكي فيهم ويحثونه على لحاق البلاد قبل أن تملك، ولا ينفعه حينئذ المجيء، فتجهز وسار مجداً فابتدأ وركب البحر وسار إلى مدينة أنطاليا، وهي له على ساحل البحر، فأرسى فيها، وأقام ينتظر وصول المراكب التي فيها أثقاله وسلاحه، فلما وصلت سار عنها إلى مدينة نيقية وحصرها، فصالحه أهلها على مال يؤدونه إليه، وقيل: بل ملكها وسار عنها إلى مدينة أدنة ومدينة المصيصة، وهما بيد ابن ليون الأرمني، صاحب قلاع الدروب، فحصرهما وملكهما.
ورحل إلى عين زربة فملكها عنوة، وملك تل حمدون، وحمل أهله إلى جزيرة قبرس، وعبر ميناء الإسكندرونة ثم خرج إلى الشام فحصر مدينة أنطاكية في ذي القعدة، وضيق على أهلها، وبها صاحبها الفرنجي ريمند، فترددت الرسل بينهما، فتصالحا ورحل عنها إلى بغراص، ودخل منها بلد ابن ليون الأرمني، فبذل له ابن ليون أموالاً كثيرة ودخل في طاعته، والله أعلم.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، وفي الرابع والعشرين من أيار، ظهر بالشام سحاب أسود أظلمت له الدنيا، وصار الجو كالليل الظلم، ثم طلع بعد ذلك سحاب أحمر كأنه نار أضاءت له الدنيا، وهبت ريح عاصف ألقت كثيراً من الشجر، وكان أشد ذلك بحوران ودمشق، وجاء بعده مطر شديد وبرد كبار وفيها عاد مؤيد الدين أبو الفوارس المسيب بن علي بن الحسين المعروف بابن الصوفي من صرخد إلى دمشق. وكان قد أخرج هو وأهله من دمشق إلى صرخد، فبقوا فيها إلى الآن، وعادوا، وولي أبو الفوارس الرئاسة بدمشق، وكان محبوباً عند أهلها، وتمكن تمكناً عظيماً، وكان ذا رئاسة عظيمة ومروءة ظاهرة.
وفيها كثرت الأمراض ببغداد وكثر الموت فجأة بأصفهان وهمذان.
وفيها سار أتابك زنكي إلى دقوقا فحصرها وملكها بعد أن قاتل على قلعتها قتالاً شديداً.
وفيها توفي أبو سعيد أحمد بن محمد بن ثابت الخجندي رئيس الشافعية بأصفهان، وتفقه على والده، ودرس بالنظامية بأصفهان.
وتوفي هبة الله بن أحمد بن عمر الحريري، ومولده يوم عاشوراء سنة خمس وثلاثين وأربعمائة، وهو أخر من روى عن أبي الحسن زوج الحرة. وقد روى الخطيب أبو بكر بن ثابت عن زوج الحرة أيضاً، وكانت وفاة الخطيب سنة ثلاث وستين وأربعمائة. ثم دخلت:

.سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة:

.ذكر ملك أتابك زنكي حمص وغيرها من أعمال دمشق:

وفي هذه السنة، في المحرم، وصل أتابك إلى حماة وسار منها إلى بقاع بعلبك، فملك حصن المجدل، وكان لصاحب دمشق، وراسله مستحفظ بانياس وأطاعه، وهو أيضاً لصاحب دمشق، وسار إلى حمص فحصرها، وأدام قتالها، فلما نازل ملك الروم حلب رحل عنها إلى سلمية، فلما انجلت حادثة الروم، على ما ذكرناه، عاود منازلة حمص، وأرسل إلى شهاب الدين صاحب دمشق يخطب إليه أمه ليتزوجها، واسمها زمرد خاتون، ابنة جاولي، وهي التي قتلت ابنها شمس الملوك، وهي التي بنت المدرسة بظاهر دمشق المطلة على وادي شقرا ونهر بردى، فتزوجها، وتسلم حمص مع قلعتها.
وحملت خاتون إليه في رمضان، وإنما حمله على التزوج بها ما رأى من تحكمها في دمشق فظن أنه يملك البلد بالاتصال بها، فلما تزوجها خاب أمله ولم يحصل على شيء فأعرض عنها.

.ذكر وصول ملك الروم إلى الشام وملكه بزاعة وما فعله بالمسلمين:

قد ذكرنا سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة خروج ملك الروم من بلاده واشتغاله بالفرنج وابن ليون، فلما دخلت هذه السنة وصلت إلى الشام وخافه الناس خوفاً عظيماً، وقصد بزاعة فحصرها، وهي مدينة لطيفة على ستة فراسخ من حلب، فمضى جماعة من أعيان حلب إلى أتابك زنكي وهو يحاصر حمص، فاستغاثوا به واستنصروه، فسير معهم كثيراً من العساكر، فدخلوا إلى حلب ليمنعوها من الروم إن حصروها.
ثم إن ملك الروم قاتل بزاعة، ونصب عليها منجنبقات، وضيق على من بها فملكها بالأمان في الخامس والعشرين من رجب، ثم غدر بأهلها فقتل منهم وأسر وسبى. وكان عدة من جرح فيها من أهلها خمسة آلاف وثمانمائة نفس، وتنصر قاضيها وجماعة من أعيانها نحو أربع مائة نفس.
وأقام الروم بعد ملكها عشرة أيام يتطلبون من أختفى، فقيل لهم: إن جمعاً كثيراً من أهل هذه الناحية قد نزلوا إلى المغارات، فدخنوا عليهم، وهلكوا في المغاور.
ثم رحلوا إلى حلب فنزلوا على قويق ومعهم الفرنج الذين بساحل الشام، وزحفوا إلى حلب من الغد في خيلهم ورجلهم، فخرج إليهم أحداث حلب، فقاتلوهم قتالاً شديداً، فقتل من الروم وجرح خلق كثير، وقتل بطريق جليل القدر عندهم، وعادوا خاسرين، وأقاموا ثلاثة أيام فلم يروا فيها طمعاً، فرحلوا إلى قلعة الأثارب، فخاف من فيها من المسلمين، فهربوا عنها تاسع شعبان فملكها الروم وتركوا فيها سبايا بزاعة والأسرى ومعهم جمع من الروم يحفظونهم ويحمون القلعة وساروا، فلما سمع الأمير أسوار بحلب ذلك رحل فيمن عنده من العسكر إلى الأثارب، فأوقع بمن فيها من الروم، فقتلهم، وخلص السبي والأسرى وعاد إلى حلب.
وأما عماد الدين زنكي فإنه فارق حمص وسار إلى سلمية فنازلها، وعبر ثقله الفرات إلى الرقة، وأقام جريدة ليتبع الروم ويقطع عنهم الميرة، وأما الروم فإنهم قصدوا قلعة شيزر، فإنها من أمنع الحصون، وإنما قصدوها لأنها لم تكن لزنكي، فلا يكون له في حفظها الاهتمام العظيم، وإنما كانت للأمير أبي العساكر سلطان بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني، فنازلوها وحصروها، ونصبوا عليها ثمانية عشر منجنيقاً، فأرسل صاحبها إلى زنكي يستنجده، فسار إليه فنزل على نهر العاصي بالقرب منها، بينها وبين حماة، وكان يركب كل يوم ويسير إلى شيزر هو وعساكره ويقفون بحيث يراهم الروم، ويرسل السرايا فتأخذ من ظفرت به منهم.
ثم إنه أرسل إلى ملك الروم يقول له: إنكم قد تحصنتم مني بهذه الجبال، فأنزلوا منها إلى الصحراء حتى نلتقي، فإن ظفرت بكم أرحت المسلمين منكم، وإن ظفرتم استرحتم وأخذتم شيزر وغيرها. ولم يكن له بهم قوة وإنما كلن يرهبهم بهذا القول وأشباهه، فأشار فرنج الشام على ملك الروم بمصافته،وهونوا أمره عليه، فلم يفعل، وقال: أتظنون أنه ليس له من العسكر إلا ما ترون؟إنما هو يريد أن تلقوه فيجيئه من نجدات المسلمين ما لا حد له.
وكان زنكي يرسل أيضاً إلى ملك الروم يوهمه بأن فرنج الشام خائفون منه، فلو فارق مكانه لتخلوا عنه، ويرسل إلى فرنج الشام يخوفهم من ملك الروم ويقول لهم: إن ملك بالشام حصناً واحداً ملك بلادكم جميعاً؛ فاستشعر كل من صاحبه، فرحل ملك الروم عنها في رمضان، وكان مقامه عليها أربعة وعشرين يوماً، وترك المجانيق وآلات الحصار بحالها، فسار أتابك زنكي يتبع ساقة العسكر، فظفر بكثير ممن تخلف منهم، وأخذ جميع ما تركوه.
ولما كان الفرنج على بزاعة أرسل زنكي القاضي كمال الدين أبا الفضل محمد بن عبد الله بن قاسم الشهرزوري إلى السلطان مسعود يستنجده، ويطلب العساكر، فمضى إلى بغداد، وانهى الحال إلى السلطان، وعرفه عاقبة الإهمال، وأنه ليس بينه وبين الروم إلا أن يملكوا حلب وينحدروا مع الفرات إلى بغداد، فلم يجد عنده حركة، فوضع إنساناً من أصحابه، يوم جمعة، فمضى إلى جامع القصر، ومعه جماعة من رنود العجم، وأمر أن يثور بهم إذا صعد الخطيب المنبر، ويصيح ويصيحوا معه: وا إسلامه، وا دين محمداه! ويشق ثيابه، ويرمي عمامته من رأسه، ويخرج إلى دار السلطان والناس معه يستغيثون،كذلك ووضع إنساناً آخر يفعل بجامع السلطان مثله. فلما صعد الخطيب المنبر قام ذلك الرجل ولطم رأسه، وألقى عمامته وشق ثوبه، وأولئك معه، وصاحوا، فبكى الناس وتركوا الصلاة، ولعنوا السلطان، وساروا من الجامع يتبعون الشيخ إلى دار السلطان فوجدوا الناس في جامع السلطان كذلك، وأحاط الناس بدار السلطان يستغيثون ويبكون، فخاف السلطان، فقال أحضروا إلي ابن الشهرزوري، فأحضر، فقال كمال الدين: لقد خفت منه مما رأيت، فلما دخلت عليه قال لي: أي فتنة أثرت؟فقلت ما فعلت شيئاً. أنا كنت في بيتي، وإنما الناس يغارون للدين والإسلام، ويخافون عاقبة هذا التواني، فقال: اخرج إلى الناس ففرقهم عنا واحضر غداً واختر من العسكر من تريد، ففرقت الناس وعرفتهم ما أمر به من تجهيز العساكر وحضرت من الغد إلى الديوان، فجهزوا لي طائفة عظيمة من الجيش ن فأرسلت إلى نصير الدين بالموصل أعرفه ذلك، وأخوفه من العسكر إن طرقوا البلاد، فإنهم يملكونها، فأعاد الجواب يقول: البلاد لا شك مأخوذة فلأن يأخذها المسلمون خير من أن يأخذها الكافرون.
فشرعنا في التحميل للرحيل، وإذ قد وصلني كتاب أتابك زنكي من الشام يخبر برحيل ملك الروم ويأمرني بأن لا استصحب من العسكر أحداً، فعرفت السلطان ذلك فقال: العسكر قد تجهز، ولابد من الغزاة إلى الشام، فبعد الجهد وبذل الخدمة العظيمة له ولأصحابه أعاد العسكر.
ولما عاد ملك الروم عن شيزر مدح الشعراء أتابك زنكي وأكثروا، فمن ذلك ما قاله المسلم بن خضر بن قسيم الحموي من قصيدة أولها:
بعزمك أيها الملك العظيم ** تذل لك الصعاب وتستقيم

ومنها:
ألم تر أن كلب الروم لما ** تبين أنه الملك الرحيم

فجاء يطبق الفلوات خيلاً ** كأن الجحفل الليل البهيم

وقد نزل الزمان على رضاه ** ودان لخطبه الخطب العظيم

فحين رميته بكفي خميس ** تيقن أن ذلك لا يدوم

وأبصر في المفاضة منك جيشاً ** فأحرب لا يسير ولا يقيم

كأنك في العجاج شهاب نور ** توقد وهو شيطان رجيم

أراد بقاء مهجته فولى ** وليس سوى الحمام له حميم

وهي قصيدة طويلة، ومن عجيب ما يحكى أن ملك الروم لما عزم على حصر شيزر سمع من بها ذلك، فقال الأمير مرشد بن علي أخو صاحبها وهو يفتح مصحفاً: اللهم بحق من أنزلته عليه إن قضيت بمجيء ملك الروم فاقبضني إليك! فتوفي بعد أيام.

.الحرب بين السلطان مسعود والملك داود:

ذكر الحرب بين السلطان مسعود والملك داود ومن معه من الأمراء:
لما فارق الراشد بالله أتابك زنكي من الموصل سار نحو أذربيجان، فوصل مراغة، وكان الأمير منكبرس صاحب فارس، ونائبه بخوزستان الأمير بوزابة، والأمير عبد الرحمن طغايرك صاحب خلخال، والملك داود ابن السلطان محمود، مستشعرين من السلطان مسعود،خائفين منه،فتجمعوا ووافقوا الراشد على الاجتماع معهم لتكون أيديهم واحدة، ويردوه إلى الخلافة، فأجابهم إلى ذلك إلا أنه لم يجتمع معهم.
ووصل الخبر إلى السلطان مسعود وهو ببغداد باجتماعهم، فسار عنها في شعبان نحوهم، فالتقوا ببنجن كشت، فاقتتلوا، فهزمهم السلطان مسعود، وأخذ الأمير منكبرس أسيرا ًفقتل بين يديه صبراً، وتفرق عسكر مسعود في النهب واتباع المنهزمين.
وكان بوزابة وعبد الرحمن طغايرك على نشز من الأرض، فرأيا السلطان مسعودا ًوقد تفرق عسكره عنه، فحملا عليه وهو في قلة فلم يثبت لهما وانهزم، وقبض بوزابة على جماعة من الأمراء: منهم صدقة بن دبيس صاحب الحلة، ومنهم ولد أتابك قراسنقر صاحب أذربيجان، وعنتر بن أبي العسكر وغيرهم وتركهم عنده. فلم ا بلغه قتل صاحبه منكبرس قتلهم جميعاً وصار العسكران مهزومين، وكان هذا من أعجب الاتفاق.
وقصد السلطان مسعود أذربيجان، وقصد الملك داود همذان، ووصل إليها الراشد بعد الوقعة فاختلفت آراء الجماعة، فبعضهم أشار بقصد العراق والتغلب عليه، وبعضهم أشار باتباع السلطان مسعود للفراغ منه، فإن ما بعده يهون عليهم. وكان بوزابة أكبر الجماعة فلم ير ذلك، وكان عرضه المسير إلى بلاد فارس وأخذها بعد قتل صاحبها منكبرس قبل أن يمتنع من بها عليه، فبطل عليهم ما كانوا فيه، وسار إليها فملكها، وصارت له مع خوزستان.
وسار سلجوق شاه ابن السلطان محمد إلى بغداد ليملكها، فخرج إليه البقش الشحنة بها ونظر الخادم أمير الحاج وقاتلوه ومنعوه، وكان عاجزاً مستضعفاً، ولما قتل صدقة بن دبيس أقر السلطان مسعود الحلة على أخيه محمد بن دبيس وجعل معه مهلهل بن ابي العسكر أخا عنتر المقتول يدبر أمره.
ولما كان البقش شحنة بغداد يقاتل سلجوقشاه ثار العيارون ببغداد ونهبوا الأموال، وقتلوا الرجال، وزاد أمرهم حتى كانوا يقصدون أرباب الأموال ظاهراً، ويأخذون منهم ما يريدون، ويحملون الأمتعة على رؤوس الحمالين، فلما عاد الشحنة قتل منهم وصلب، وغلت الأسعار وكثر الظلم منه، وأخذ المستورين بحجة العيارين، فجلا الناس عن بغداد إلى المصل وغيرها من البلاد.

.ذكر قتل الراشد بالله:

لما وصل الراشد بالله إلى همذان، وبها الملك داود وبوزابة ومن معهما من المراء والعساكر بعد انهزام السلطان مسعود وتفرق العساكر، على ما تقدم ذكره، سار الرشد بالله إلى خوزستان مع الملك داود، ومعه خوارزم شاه، فقاربا الحويزة، فسار السلطان مسعود إلى بغداد ليمنعهم عن العراق، فعاد الملك داود إلى فارس وعاد خوارزم شاه إلى بلاده، وبقي الراشد وحده، فلما أيس من عساكر العجم سار إلى أصفهان.
فلما كان الخامس والعشرون من رمضان وثب عليه نفر من الخراسانية الذين كانوا في خدمته، فقتلوه وهو يريد القيلولة، وكان في أعقاب مرض وقد برىء منه، ودفن بظاهر أصفهان بشهرستان، فركب من معه فقتلوا الباطنية.
ولما وصل الخبر إلى بغداد جلسوا للعزاء به في بيت النوبة يوماً واحداً. وكان أبيض أشقر، حسن اللون مليح الصورة، مهيباً شديد القوة والبطش.
قال أبو بكر الصولي: الناس يقولون إن كل سادس يقوم بأمر الناس من أول الإسلام لا بد من أن يخلع، وربما قتل. قال: فتأملت ذلك، فرأيته كما قيل، فإن أول من قام بأمر هذه الأمة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن، رضي الله عنهم، فخلع ثم معاوية ويزيد ابنه، ومعاوية بن يزيد، ومروان، وعبد الملك بن مروان، وعبد الله بن الزبير،فخلع وقتل؛ثم الوليد بن عبد الملك، وأخوه سليمان، وعمر بن عبد العزيز، ويزيد، وهشام ابنا عبد الملك،والوليد بن يزيد ابن عبد الملك،فخلع وقتل؛ ثم لم ينتظم أمر بني أمية؛ثم ولي السفاح،والمنصور والمهدي والهادي والرشيد والأمين،فخلع وقتل؛ والمأمون والمعتصم والواثق والمتوكل والمنتصر والمستعين، فخلع وقتل؛ والمعتز والمهتدي والمعتمد والمعتضد والمكتفي والمقتدر،فخلع، ثم رد، ثم قتل، ثم القاهر والراضي والمتقي والمستكفي والمطيع والطائع، فخلع؛ ثم القادر والقائم والمقتدي والمستظهر والمسترشد والراشد،، فخلع وقتل. قلت: وفي هذا نظر لأن البيعة لأبن الزبير كانت قبل البيعة لعبد الملك بن مروان، وكونه جعله بعده لا وجه له، والصولي إنما ذكر إلى أيام المقتدر بالله ومن بعده ذكره غيره.

.ذكر حال ابن بكران العيار:

في هذه السنة، في ذي الحجة، عظم أمر ابن بكران العيار بالعراق، وكثر أتباعه، وصار يركب ظاهرً في جمع من المفسدين، وخافه الشريف أبو الكرم الوالي ببغداد، فأمر ابا القاسم ابن أخيه حامي باب الأزج أن يشتد عليه ليأمن شره.
وكان ابن بكران يكثر المقام بالسواد، ومعه رفيق له يعرف بابن البزاز، فانتهى أمرهما إلى أنهما أرادا أن يضربا باسمهما سكة في الأنبار، فأرسل الشحنة والوزير شرف الدين الزينبي إلى الوالي أبي الكرم وقالا: إما أن تقتل ابن بكران، وإما أن نقتلك؛ فأحضر ابن أخيه وعرفه ما جرى، وقال له: إما أن تختارني ونفسك، وإما أن تختار أبن بكران؛ فقال أنا أقتله. وكان لابن بكران عادة يجيء في بعض الليالي إلى ابن أخي أبي الكرم، فيقيم في داره ويشرب عنده،فلما جاء على عادته وشرب، أخذ أبو القاسم سلاحه ووثب به فقتله وأراح الناس من شره، ثم أخذ بعده بيسير، رفيقه ابن البزاز، وصلب، وقتل معه جماعة من الحرامية، فسكن الناس واطمأنوا وهدأت الفتنة.

.ذكر قتل الوزير الدركزيني ووزارة الخازن:

في هذه السنة قبض السلطان مسعود على وزيره العماد أبي البركات بن سلمة الدركزيني، واستوزر بعده كمال الدين محمد بن الحسين الخازن، وكان الكمال شهماً، شجاعاً، عادلاً، نافذ الحكم، حسن السيرة، أزال المكوس ورفع المظالم، وكان يقيم مؤونة السلطان ووظائفه، وجمع له خزائن كثيرة، وكشف أشياء كثيرة كانت مستورة يخان فيها ويسرق، فثقل على المتصرفين وأرباب الأعمال، فأوقعوا بينه وبين الأمراء، لاسيما قراسنقر صاحب اذربيجان فإنه فارق السلطان وأرسل يقول: إما أن تنفذ رأس الوزير وإلا خدمنا سلطاناً آخر. فاشار من حضر من الأمراء بقتله، وحذروه فتنة لا تتلافى، فقتله على كره منه، وأرسل إلى قراسنقر فرضي. وكانت وزارته سبعة أشهر، وكان قتله سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة.
ووزر بعده أبو العز طاهر بن محمد البروجردي وزير قراسنقر، ولقب عز الملك، وضاقت الأمور على السلطان مسعود، واستقطع الأمراء البلاد بغير اختياره، ولم يبق له شيء من البلاد البتة إلا اسم السلطنة لا غير.؟؟؟

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة ملك حسام الدين تمرتاش إيلغازي، صاحب ماردين، قلعة الهتاخ من بلاد ديار بكر، أخذها من بعض بني مروان الذين كانوا ملوك ديار بكر جميعها، وهذا أخر من بقي منهم له ولاية، فسبحان الحي الدائم الذي لا يزول ملكه ولا يتطرق إليه النقص ولا التغيير.
وفيما انقطعت كسوة الكعبة، لما ذكرناه من الاختلاف، فقام بكسوتها رامشت التاجر الفارسي، كساها من الثياب الفاخرة بكل ما وجد إليه سبيل، فبلغ ثمن الكسوة ثمانية عشر ألف دينار مصرية؛ وهو من التجار المسافرين إلى الهند كثير المال.
وفيها توفيت زبيدة خاتون ابنة السلطان بركيارق، زوج السلطان مسعود، وتزوج بعدها سفري ابنة دبيس بن صدقة في جمادى الأولى، وتزوج ابنة قاروت، وهو من البيت السلجوقي، إلا أنه كان لا يزال يعاقر الخمر ليلاً ونهاراً، فلهذا سقط اسمه وذكره.
وفيها قتل السلطان مسعود ابن البقش السلاحي شحنة بغداد، وكان قد ظلم الناس وعسفهم، وفعل ما لم يفعله غيره من الظلم، فقبض عليه وسيره إلى تكريت، فسجنه بها عند مجاهد الدين بهروز، ثم أمر بقتلهن فلما أرادوا قتله ألقى بنفسه في دجلة فغرق، فأخذ رأسه وحمل إلى السلطان، وجعل السلطان شحنة العراق مجاهد الدين بهروز، فعمل أعمالاً صالحة منها: أنه عمل مسناة النهروان وأشباهها، وكان حسن السيرة كثير الإحسان.
وفيها درس الشيخ أبو منصور بن الرزاز بالنظامية في بغداد.
وأرسل إلى أتابك زنكي في إطلاق قاضي القضاة الزينبي، فأطلق وانحدر إلى بغداد، فخلع عليه الخليفة وأقره على منصبه.
وفيها كان بخراسان غلاء شديد طالت مدته، وعظم أمره، حتى أكل الناس الكلاب والسنانير وغيرهما من الدواب، وتفرق أكثر أهل البلاد من الجوع.
وفيها توفي طغان أرسلان صاحب بدليس وأرزن من ديار بكر وولي بعده ابنه فرني واستقام له الأمر.
وفيها، في شهر صفر، جاءت زلزلة عظيمة بالشام والجزيرة وديار بكر والموصل والعراق وغيرها من البلاد، فخربت كثيراً منها، وهلك تحت الهدم عالم كثير.
وفيها توفي أحمد بن محمد بن أبي بكر بن أبي الفتح الدينوري الفقيه الحنبلي ببغداد، وكان ينشد كثيراً هذه الأبيات:
تمنيت أن تمسي فقيهاً مناظراً ** بغير عياء والجنون فنون

وليس اكتساب المال دون مشقة ** تلقيتها فالعلم كيف يكون

وفيها توفي محمد بن عبد الملك بن عمر أبو الحسن الكرخي، ومولده سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، وكان فقيهاً محدثاً سمع الحديث بكرخ وأصفهان وهمذان وغيرها.
وفي شعبان منها توفي القاضي أبو العلاء صاعد بن الحسين بن إسماعيل ابن صاعد، وهو ابن عم القاضي أبي سعيد، وولي القضاء بنيسابور بعد أبي سعيد. ثم دخلت:

.سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة:

.ذكر الحرب بين السلطان سنجر وخوارزم شاه:

في هذه السنة، في المحرم، سار السلطان سنجر بن ملكشاه إلى خوارزم محارباً لخوارزم شاه أتسز بن محمد. وسبب ذلك أن سنجر بلغه أن أتسز يحدث نفسه بالامتناع عليه وترك الخدمة له، وأن هذا الأمر قد ظهر على كثير من أصحابه وأمرائه، فأوجب ذلك قصده واخذ خوارزم منه، فجمع عساكره وتوجه نحوه،فلما قرب من خوارزم خرج خوارزم شاه إليه في عساكره، فلقيه مقابلاً وعبأ كل واحد منهما عساكره وأصحابه، فاقتتلوا، فلم يكن للخوارزمية قوة بالسلطان، فلم يثبتوا، وولوا منهزمين، وقتل منهم خلق كثير، ومن جملة القتلى ولد لخوارزم شاه، فحزن عليه أبوه حزناً عظيماً، ووجد وجداً شديداً.
وملك سنجر خوارزمن وأقطعها غياث الدين سليمان شاه ولد أخيه محمد، ورتب له وزيراً وأتابكاً وحاجباً، وقرر قواعده، وعاد إلى مرو في جمادى الأخرى من هذه السنة؛ فلما فارق خوارزم عائداً انتهز خوارزم شاه الفرصة فرجع إليها، وكان أهلها يكرهون العسكر السنجري ويؤثرون عودة خوارزم شاه، فلما عاد أعانوه على ملك البلد، ففارقهم سليمان شاه ومن معه ورجع إلى عمه السلطان سنجر، وفسد الحال بين سنجر وخوارزم واختلفا بعد الاتفاق، ففعل خوارزم شاه في خراسان سنة ست وثلاثين وخمسمائة ما نذكره إن شاء الله.

.ذكر قتل محمود صاحب دمشق وملك أخيه محمد:

في هذه السنة،في شوال، قتل شهاب الدين محمود بن تاج الملوك بوري بن طغدكين،صاحب دمشق، على فراشه غيلة، قتله ثلاثة من غلمانه هم خواصه واقرب الناس منه في خلوته وجلوته،وكانوا ينامون عنده ليلاً، فقتلوه وخرجوا من القلعة وهربوا، فنجا أحدهم وأخذ الآخران فصلبا.
وكتب من بدمشق إلى أخيه جمال الدين محمد بن بوري صاحب بعلبك، بصورة الحال واستدعوه ليملك بد أخيه، فحضر في أسرع وقت، فلما دخل البلد جلس للعزاء بأخيه، وحلف له الجند وأعيان الرعية، وسكن الناس، وفوض أمر دولته إلى معين الدين أنز،مملوك جده،وزاد في علو مرتبته، وصار هو الجملة والتفصيل؛ وكان أنز خيراً عاقلاً حسن السيرة فجرت الأمور عنده على أحسن نظام.

.ذكر ملك زنكي بعلبك:

في هذه السنة، في ذي القعدة، سار عماد الدين أتابك زنكي بن آقسنقر إلى بعلبك،فحصرها ثم ملكها؛ وسبب ذلك أن محموداً صاحب دمشق لما قتل كانت والدته زمرد خاتون عند اتابك زنكي بحلب، قد تزوجها،فوجدت لقتل ولدها وجداً شديداً، وحزنت عليه، وأرسلت إلى زنكي وهو بديار الجزيرة تعرفه الحادثة، وتطلب منه أن يقصد دمشق ويطلب بثأر ولدها. فلما وقف على هذه الرسالة بادر في الحال من غير توقف ولا تريث، وسار مجداً ليجعل ذلك طريقاً إلى ملك البلد، وعبر الفرات عازماً على قصد دمشق، فاحتاط من بها، واستعدوا، واستكثروا من الذخائر، ولم يتركوا شيئاً مما يحتاجون إليه ألا وبذلوا الجهد في تحصيله، وأقاموا ينتظرون وصوله إليهم، فتركهم وسار إلى بعلبك.
وقيل: كان السبب في ملكها أنها كانت لمعين الدين أنز، كما ذكرناه، وكان له جارية يهواها، فلما تزوج أم جمال الدين سيرها إلى بعلبك، فلما سار زنكي إلى الشام عازماً على قصد دمشق سير إلى أنز يبذل له البذول العظيمة ليسلم إليه دمشق، فلم يفعل.
وسار أتابك إلى بعلبك فوصل إليها في العشرين من ذي الحجة من السنة فنازلها في عساكره، وضيق عليها، وجد في محاربتها، ونصب عليها من المنجنيقات أربعة عشر عدداً ترمي ليلاً ونهاراً، فأشرف من بها على الهلاك، وطلبوا الأمان، وسلموا إليه المدينة، وبقيت القلعة وبها جماعة من شجعان الأتراك، فقاتلهم، فلما أيسوا من معين ونصير طلبوا الأمان فأمنهم، فسلموا القلعة إليه، فلما نزلوا منها وملكها غدر بهم وأمر بصلبهم فصلبوا ولم ينج منهم إلا القليل، فاستقبح الناس ذلك من فعله واستعظموهن وخافه غيرهم وحذروه ولاسيما أهل دمشق فإنهم قالوا: لو ملكنا لو ملكنا لفعل بنا مثل فعله بهؤلاء؛ فازدادوا نفوراً وجداً في محاربته.
ولما ملك زنكي بعلبك أخذ الجارية التي كانت لمعين الدين أنز بها، فتزوجها بحلب، فلم تزل بها إلى أن قتل، فسيرها أبنه نور الدين محمود إلى معين الدين أنز، وهي كانت أعظم الأسباب في المودة بين نور الدين وبين أنز، والله أعلم.